الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} قوله تعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة} يعني: من وسط المدينة، وهو حبيب بن إسرائيل النجار {رَجُلٌ يسعى} يعني: يسعى في مشيه. وقال بعضهم: هو الذي عاش ابنه بعد الموت، بدعاء الرسل، فجاء وأسلم. وقال بعضهم: كان ابنه مريضاً، فبرئ بدعوة الرسل، فصدق بهم، فلما بلغه أن القوم أرادوا قتل الرسل، جاء ليمنع الناس عن قتلهم. وقال قتادة: كان في غار يدعو ربه فلما بلغه مجيء الرسل أتاهم {قَالَ يَا قَوْمٌ اتبعوا المرسلين} يعني: دين المرسلين ثم قال للرسل هل تسألون على هذا أجراً؟ فقالوا: لا. فقال: للقوم {اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً} يعني: على الإيمان {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} يدعوكم إلى التوحيد. فقال له قومه: تبرأت عن ديننا، واتبعت دين غيرنا. فقال: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى} يعني: خلقني. قرأ حمزة وابن عامر في إحدى الروايتين: {وَمَا لِىَ} بسكون الياء. وقرأ الباقون: بالفتح. وهما لغتان وكلاهما جائز. ثم قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يعني: تصيرون إليه بعد الموت، وهذا كقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180] فقالوا له: ارجع إلى ديننا. فقال حبيب: {أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةً} يعني: أعبد من دونه أصناماً {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ} يعني: ببلاء وشدة إذا فعلت ذلك {لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئاً} يعني: لا تقدر الآلهة أن يشفعوا لي {وَلاَ يُنقِذُونَ} يعني: لا يدفعون عني الضرر {إِنّى إِذاً لَّفِى ضلال مُّبِينٍ} يعني: إني إذا فعلت ذلك لفي خسران بيّن {إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون} يعني: فاشهدوني، وأعينوني بقول لا إله إلا الله. وقال ابن عباس: أُلقي في البئر وهو الرس كما قال {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 12] وقال قتادة: قتلوه بالحجارة. وهو يقول: رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون. وقال مقاتل: أخذوه ووطؤوه، تحت أقدامهم، حتى خرجت أمعاؤه، ثم ألقي في البئر، وقتلوا الرسل الثلاثة. فلما ذهب بروح حبيب النجار إلى الجنة ف {قِيلَ} له {ادخل الجنة قَالَ ياليت ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى} وذلك حين دخلها، وعاين ما فيها من النعيم، تمنى أن يسلم قومه فقال: {قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى} بالذي غفر لي ربي. ويقال: بمغفرتي. ويقال: بماذا غفر لي ربي؟ فلو علموا، لآمنوا بالرسل. ثم قال: {وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين} أي: الموحدين في الجنة. نصح لهم في حياته، وبعد وفاته. يقول الله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السماء} يعني: من بعد حبيب النجار {مِن جُندٍ} من السماء، يعني: الملائكة {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} يعني: لم نبعث إليهم أحداً {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} يعني: ما كانت إلا صيحة جبريل عليه السلام {فَإِذَا هُمْ خامدون} يعني: ميتون لا يتحركون {خامدون ياحسرة عَلَى العباد} يعني: يا ندامة على العباد في الآخرة. يعني: يقولون: يا حسرتنا على ما فعلنا بالأنبياء عليهم السلام {مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ} في الدنيا {إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. ثم خوّف المشركين بمثل عذاب الأمم الخالية ليعتبروا فقال: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا} يعني: ألم يعلموا؟ ويقال: ألم يخبروا كم أهلكنا {قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} يعني: كم عاقبنا من القرون الماضية {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} إلى الدنيا {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} قرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر، بتشديد الميم. وقرأ الباقون: بالتخفيف. فمن قرأ بالتشديد فمعناه: وما كل إلا جميع. ومن قرأ بالتخفيف فما زائدة ومؤكدة. والمعنى وإن كل لجميع لدينا محضرون. يعني: يوم القيامة محضرون عندنا، ثم وعظهم كي يعتبروا من صنعه، فيعرفوا توحيده.
{وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)} قوله تعالى {وَآيَةٌ لَهُمُ} يعني علامة وحدانيته {الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} يغني الأرض اليابسة أحييانها بالمطر لتنبت {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} يعني الحبوب كلها {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا} يعني وخلقنا في الأرض {جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} يعني البساتين والكروم {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون} يعني أجرينا في الأرض الأنهار تخرج ن العيون {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} يعني من الثمرات {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِم} يعني لم تعمل أيديهم، ويقال: والذي عملت أيديهم مما يزرعون {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} رب هذه النعم فيوحدوه، وقرأ حمزة والكسائي {ثَمَرِهِ} بالضم. وقرأ الباقون: بالنصب. والثَّمر بالنصب، جماعة الثمرة. والثمرات جمع الجمع وهو الثمر، مثل كتاب وكتب. والثُّمر بالضم جمع الثمار. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: {وَمَا عَمِلَتْ} بغير هاء. وقرأ الباقون: بالهاء. ومعناهما واحد. ثم قال: {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر، يعني: اشكروا رب هذه النعم ووحدوه.
{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} ثم قال عز وجل: {سبحان الذى خَلَق الازواج كُلَّهَا} يعني: تنزيهاً لله عز وجل الذي خلق الأصناف كلها {مِمَّا تُنبِتُ الارض} يعني: ألواناً من النبات والثمار. ففي كل شيء خلق الله تعالى دليلاً على وحدانيته تعالى وربوبيته {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} يعني: خلق من جنسهم أصناف الذكر والأنثى، وألواناً مختلفة {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} يعني: وخلق من الخلق ما لا يعلمون، وهذا كقوله: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. ثم ذكر لهم دلالة أخرى ليعتبروا بها، فقال عز وجل: {وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل} يعني: علامة وحدانيته الليل {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} يعني: نخرج ونميز منه النهار {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} يعني: داخلون في الظلمة. ويقال: يبقون في الظلمة. ويقال: إن الله خلق الدنيا مظلمة. ثم قال: {والشمس} سراجاً، فإذا طلعت الشمس، صارت الدنيا مضيئة. وإذا غربت الشمس، بقيت الظلمة. كما كانت، وهو قوله تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} يعني: ننزع الضوء منه {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} يعني: يبقون في الظلمة. ويقال: نسلخ الليل. يعني: نخرج منه النهار إخراجاً لا يبقى منه شيء من ضوء النهار، كما نسلخ الليل من النَّهَار، فكذلك نسلخ النهار من الليل. فكأنه يقول: الليل نسلخ منه النهار، والنهار نسلخ منه الليل، فاكتفى بذكر أحدهما، لأن في الكلام دليلاً. وقد ذكر في آية أخرى قال: {خَلَقَ السماوات والارض بالحق يُكَوِّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز الغفار} [الزمر: 5]. ثم قال عز وجل: {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} قال مقاتل: يعني: لوقت لها. وقال الكلبي: تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها، ولا تتجاوزها. ثم ترجع إلى أول منازلها. وقال القتبي: {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} يعني: إلى مستقر لها. ومستقرها أقصى منازلها في الغروب. وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة، حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها، ثم ترجع فذلك مستقرها، لأنها لا تجاوزها. وطريق آخر ما روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس، فقال: «يا أبَا ذَرَ أَتَدْرِي أيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنَّهَا تَغْربُ، وَتَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، وَتَسْتَأْذِن فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أنْ تَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا، حَتَّى تَسْتَشْفِعَ، وَتَطْلُبَ، فَإذا طَالَ عَلَيْهَا، قيلَ لَهَا: اطلعي مَكَانَكِ، فذلك قوله: {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} قال: مُسْتَقَرُّها تَحْتَ العَرْشِ». ثم قال: {ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} العزيز بالنقمة، العليم بما قدّره من أمرها، وخلقها. وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {والشمس تَجْرِى لمُّسْتَقِرٌّ لَهَا} يعني: لا تقف، ولا تستقر، ولكنها جارية أبداً. ثم قال عز وجل: {والقمر قدرناه مَنَازِلَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو {والقمر} بالضم وقرأ الباقون: بالنصب. فمن قرأ بالضم، فله وجهان. أحدهما أن يكون على الابتداء، والآخر معناه: {وَءايَةٌ لَّهُمُ} القمر عطف على قوله: {وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل} ومن قرأ بالنصب، فمعناه: وقدرنا القمر. وقال مقاتل في قوله: {والقمر قدرناه مَنَازِلَ} يعني: قدرناه منازل في السماء، يبدو رقيقاً، ثم يستوي، ثم ينقص في آخر الشهر. وقال الكلبي: {قدرناه مَنَازِلَ} أي: قدرناه منازل بالليل، ينزل كل ليلة في منزل، ويصعد في منزل، حتى ينتهي إلى مستقره الذي لا يجاوزه، ثم يعود إلى أدنى منازله. ويقال: إن القمر يدور في منازله في شهر واحد، مثل ما تدور الشمس في منازلها في سنة واحدة، قال مقاتل وذلك أن القمر عرضه ثمانون فرسخاً مستديرة، والشمس هكذا. وكان ضوؤهما واحداً، فأخذ تسعة وتسعون جزءاً من القمر، فألحقت بالشمس. وروي عن ابن عباس أنه قال: القمر أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً، والشمس ستون فرسخاً في ستين فرسخاً. وقال بعضهم: القمر والشمس عرض كل واحد منهما مثل الدنيا كلها. ثم قال تعالى: {حتى عَادَ كالعرجون القديم} يعني: صار كالعذق اليابس، المنقرس، الذي حال عليه الحول. ويقال: للقمر ثمانية وعشرون منزلاً، فإذا صار في آخر منازله، دقّ حتى يعود كالعذق اليابس. والعرجون إذا يبس، دق واستقوس، فشبه القمر به. يعني: صار في عين الناظر كالعرجون، وإن كان هو في الحقيقة عظيم بنفسه، إلا أنه في عين الناظر يراه دقيقاً. ثم قال عز وجل: {لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر} يعني: أن تطلع في سلطان القمر. وقال عكرمة: لكل واحد منهما سلطان للشمس سلطان بالنهار، وللقمر سلطان بالليل. فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} يعني: لا يدرك سواد الليل ضوء النهار، فيغلبه على ضوئه {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يعني: في دوران يجرون، ويدورون، ويقال: {يَسْبَحُونَ} يعني: يسيرون فيه بالانبساط، وكل من انبسط في شيء، فقد سبح فيه، وقال بعضهم: السماء كالموج المكفوف، والشمس والقمر، والكواكب الدوارة يسبحون فيها وقال بعضهم: الأفلاك كثيرة، مختلفة في السير، تقطع القمر في ثمانية وعشرين يوماً، والشمس تقطع في سنة. وقال بعضهم: الفلك واحد، وجريهن مختلف، والفلك في اللغة كل ما يدور.
{وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} ثم قال عز وجل: {وَءايَةٌ لَّهُمُ} يعني: علامة لكفار مكة على معرفة وحدانية الله تعالى، {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} يعني: آباءهم، واسم الذرية يقع على الآباء والنسوة، والصبيان، وأصله الخلق، كقوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179] يعني: خلقنا. ويقال: {ذُرّيَّتُهُم} خاصة. ثم قال: {فِى الفلك المشحون} يعني: في سفينة نوح عليه السلام الموقرة المملوءة. يعني: حملنا ذريتهم في أصلاب آبائهم قرأ نافع وابن عامر: {ذُرّياتِهِمْ} بلفظ الجماعة. وقرأ الباقون: {واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم} وأراد به الجنس. ثم قال عز وجل: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} يعني: من مثل سفينة نوح عليه السلام ما يركبون في البحر. وقال قتادة: يعني: الإبل يركب عليها في السير، كما تركب السفن في البحر. وقال السدي: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}. فقال: هذه السفن الصغار. يعني: الزوارق. وقال عبد الله بن سلام: هي الإبل. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: أخبرني الثقة بإسناده عن أبي صالح. قال: قال لي ابن عباس: ما تقول في قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قلت: هي السفن. قال: خذ مني بآذان إنما هي الإبل. فلقيني بعد ذلك. فقال: إني ما رأيتك إلا وقد غلبتني فيها، هي كما قلت ألا ترى أنه يقول: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} يعني: إن نشأ نغرقهم في الماء {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} يعني: لا مغيث لهم {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} يعني: لا يمنعون، فلا ينجون من الغرق. قوله عز وجل: {إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا} يعني: إلا نعمة منا، حين لم نغرقهم. ويقال: معناه لكن رحمة منا بحيث لم نغرقهم {ومتاعا إلى حِينٍ} يعني: بلاغاً إلى آجالهم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} ثم قال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} يعني: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أمر الآخرة فاعملوا لها {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أمر الدنيا فلا تغتروا بها. وقال مقاتل: {اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} لكيلا يصيبكم مثل عذاب الأمم الخالية {وَمَا خَلْفَكُمْ} يعني: {واتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي: من عذاب الآخرة. والأول قول الكلبي. ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يعني: لكي ترحموا فلا تعذبوا {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ} مثل انشقاق القمر {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} يعني: مكذبين. وهذا جواب لقوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} الآية. ثم أخبر عن حال زنادقة الكفار فقال عز وجل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله} يعني: تصدقوا من المال الذي أعطاكم الله عز وجل: {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ} على وجه الاستهزاء منهم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ} يعني: في خطأ بيّن. قال بعضهم: هذا قول الكفار الذين أمرهم بالنفقة. وقال بعضهم: هذا قول الله تعالى. يعني: قل لهم يا محمد: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ} وروي عن ابن عباس مثل هذا. ثم قال عز وجل: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} يعني: متى هذا الوعد الذي تعدونا به يوم القيامة {إِن كُنتُمْ صادقين} بأنا نبعث بعد الموت، فيقول الله تعالى: {مَا يَنظُرُونَ} بالعذاب {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} يعني: لا حظر لإهلاكهم، فليس إلا صيحة واحدة {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ} قرأ عاصم في رواية أبي بكر {يَخِصّمُونَ} بكسر الياء والخاء. وقرأ نافع {يَخِصّمُونَ} بنصب الياء، وسكون الخاء. وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص وابن عامر في إحدى الروايتين: بنصب الياء، وكسر الخاء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بنصب الياء والخاء. وقراءة حمزة {يَخِصّمُونَ} بنصب الياء، وجزم الخاء بغير تشديد. ومعناه: تأخذهم وبعضهم يخصم بعضاً. ومن قرأ بالتشديد. فالأصل فيه يختصمون فأدغمت التاء في الصاد، وشددت. ومن قرأ: بنصب الخاء طرح فتحة التاء على الخاء. ومن قرأ بكسر الخاء، فلسكونها، وسكون الصاد. وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: لينفخن في الصور، والناس في طرقهم، وأسواقهم، حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان، فما يرسله واحد منهما، حتى ينفخ في الصور، فيصعق به، وهي التي قال الله تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ} قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وأخبرني الثقة بإسناده عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تَقُومُ السَّاعَةُ والرَّجُلانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْب، فَلا يَطْوِيَانِهِ، وَلا يَتَبايَعَانِهِ. وَتَقُومُ السَّاعَةُ، وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ النَّاقَةَ، فَلا يَصِلُ الإنَاءُ إلَى فِيه. وَتَقُومُ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلُوطُ الْحَوْضَ، فَلا يَسْقِيَ فِيهِ». ثم قال تعالى: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} يعني: يموتون من ساعتهم بغير وصية، فلا يستطيعون أن يوصوا إلى أهلهم بشيء {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} يعني: ولا إلى منازلهم يرجعون من الأسواق فأخبر الله تعالى بما يلقون في النفخة الأولى ثم أخبر بما يلقون في النفخة الثانية. يعني: إذا بعثوا من قبورهم بعد الموت فذلك قوله: {وَنُفِخَ فِى الصور فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث} من القبور {إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ} يعني: يخرجون من قبورهم أحياء. وكان بين النفختين أربعين عاماً في رواية ابن عباس. وقيل: أكثر من ذلك. ورفع العذاب عن الكفار بين النفختين. فكأنهم رقدوا. فلما بعثوا {قَالُواْ يأَبَانَا ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} يعني: من أيقظنا من منامنا. قال: فيقول لهم الحفظة من الملائكة {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} على ألسنة الرسل {وَصَدَقَ المرسلون} بأن البعث حق. ويقال: إن المؤمنين هم الذين يقولون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} بأن البعث كائن.
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} ثم قال عز وجل: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} قال الكلبي: يعني: في الآخرة. وقال مقاتل: في بيت المقدس لحسابهم. ثم قال: {فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} يعني يوم القيامة لا تنقص نفس مؤمنة، ولا كافرة، من أعمالهم شيئاً {وَلاَ تُجْزَوْنَ} يعني: ولا تثابون {إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من خير أو شر. ثم قال: {إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون} يعني: يوم القيامة في شغل مما هم فيه. أي: عن الذي هم فيه فاكهون. يعني: ناعمين. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو {فِى شُغُلٍ} بجزم الغين. وقرأ الباقون: بالضم. وهما لغتان. يقال: شغْل وشغُل مثل عُذْر وعذُر وعمْر وعمُر. قرأ أبو جعفر المدني: {فاكهون} بغير ألف، وقراءة العامة {فاكهون} بالألف. فمن قرأ بغير ألف يعني: يتفكهون. قال أبو عبيد: يقال: للرجل إذا كان يتفكه بالطعام، أو بالشراب، أو بالفاكهة، أو بأعراض الناس، إن فلاناً يتفكه. ومنه يقال للمزاحة فكاهة. ومن قرأ بالألف يعني: ذوي فاكهة. وقال الفراء: فاكهة وفكهة لغتان، كما يقال حذر وحاذر. وروي في التفسير {فاكهون} يعني: ناعمون. وفكهون معجبون. وقال الكلبي ومقاتل في قوله: {إِنَّ أصحاب الجنة} الآية يعني: شغلوا بالنعيم في افتضاض الأبكار العذارى عن أهل النار، فلا يذكرونهم يعني: معجبين بما هم فيه من النعم والكرامة. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: حدّثنا محمد بن الفضل بإسناده عن عكرمة في قوله: {فِى شُغُلٍ فاكهون} قال في افتضاض الأبكار. وروى زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالجمَاعِ» فقال رجل من أهل الكتاب: إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة. فقال الرسول: «يَفِيضُ مِنْ جَسَدِ أحَدِهِمْ عَرَقٌ مِثْلُ المِسْكِ الأذْفَرِ فَيَضْمُرُ بذلكَ بَطْنُهُ». ثم قال تعالى: {هُمْ وأزواجهم فِى ظلال} قرأ حمزة والكسائي {فِي ظُلَلٍ} وقرأ الباقون {فِى ظلال} فمن قرأ {فِي ظُلَلٍ} فهو جمع الظلة. يقال: ظلة وظلل مثل حلة وحلل. ومن قرأ بكسر الظاء فهو جمع الظل يعني: هم في ظلال العرش والشجر ويقال معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد. يعني: إن أهل الجنة {هُمْ وأزواجهم} الحور العين في القصور {عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ} يعني: على السرر عليها الحجال. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: الأرائك سرر في الحجال. وقال الكلبي: لا تكون أريكة إلا إذا اجتمعتا، فإذا تفرقا فليست بأريكة {مُتَّكِئُونَ} أي: ناعمون. وإنما سمي هذا لأن الناعم يكون متكئاً. ثم قال: {لَهُمْ فِيهَا فاكهة} يعني: لهم في الجنة من أنواع الفاكهة {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} يعني: ما يتمنون مما يشتهوا من الخير، {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} يعني: يرسل إليهم ربهم بالتحية والسلام. والعرب تقول: ادّعي ما شئت، {يَدَّعُونَ} يتمنون. فقوله عز وجل: {سَلاَمٌ قَوْلاً} يعني: يقال لهم سلام كأنهم يتلقونه بالسلام {مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} ويقال: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سلام} يعني: لهم ما يشاؤون خالصاً. ثم قال: {قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ}.
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)} يقول الله تعالى {وامتازوا اليوم} وذلك أنه إذا كان يوم نادى مناد: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} يعني: اعتزلوا أيها الكفار من المؤمنين، فإنهم قد تأذوا منكم في الدنيا، فاعتزلوهم حتى ينجوا منكم. ويقال: إن المنادي ينادي {أَيُّهَا المجرمون} امتازوا، فإن المؤمنين قد فازوا. وأيها المنافقون امتازوا، فإن المخلصين قد فازوا. ويا أيها الفاسقون امتازوا فإن الصالحين قد فازوا ويا أيها العاصون امتازوا، فإن المطيعين قد فازوا. ثم يقول للكفار والمنافقين بعدما امتازوا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} يعني: ألم أتقدم إليكم. ويقال: ألم أبيّن لكم في القرآن. ويقال: ألم أوضح لكم {تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ} بالكتاب والرسل. وقال القتبي: العهد يكون لمعان، يكون للأمانة كقوله: {إِلاَّ الذين عاهدتم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 4] ويكون لليقين، ويكون للميثاق، ويكون للزمان. كما يقال: كان ذلك في عهد فلان أي: في زمانه. ويكون العهد للوصية، كقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} يعني: أن لا تطيعوا الشيطان. قال ابن عباس: من أطاع شيئاً فقد عبده {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} يعني: بيّن العداوة {وَأَنِ اعبدونى هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} يعني: أطيعوني، ووحدوني. يعني: هذا التوحيد طريق مستقيم. ويقال: دين الإسلام هو طريق مستقيم لا عوج فيه، وهو طريق الجنة. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} يعني: خلقاً كثيراً. وقرأ نافع وعاصم {جِبِلاًّ} بكسر الجيم، والباء، والتشديد. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر: {جِبِلاًّ} بضم الجيم، وجزم الباء. والباقون: بضم الجيم والباء. ومعنى ذلك كله واحد. وقال أهل اللغة: الجبل، والجبلة كله بمعنى واحد يعني: الناس الكثير {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} ما فعل بمن كان قبلكم، فتعتبروا فلم تطيعوه، فلما دنوا من النار قال لهم خزنتها {هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا فلم تصدقوا بها {اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} يعني: اصلوها اليوم بما كفرتم في الدنيا عقوبة لكم في الدنيا {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} وذلك حين قالوا: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يعني: يعملون من الشرك والمعاصي. ثم قال: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} قال مقاتل يعني: لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى {فاستبقوا الصراط} يعني: ولو طمست الكفر، لاستبقوا الصراط، أي: لجازوا الطريق {فأنى يُبْصِرُونَ} يعني: فمن أين يبصرون الهدى بعدما جعلت قلوبهم قاسية، وجعلت على أعمالهم غطاء، وَأكِنَّةً على قلوبهم. قال الكلبي: {وَلَوْ نَشَاء} لفقأنا أعين الضلالة، فأبصروا الهدى، واستبقوا الطريق فَأنَّى يُبْصِرُونَ الطريق. ويقال: فأنى يبصرون. الهدى وقال بعضهم: ولو نشاء لأعمينا أبصارهم في أسواقهم، ومجالسهم، كما فعلنا بقوم لوط عليه السلام حين كذبوه وراودوه عن ضيفه {فاستبقوا الصراط} يعني: فابتدروا الطريق هرباً إلى منازلهم، ولو فعلنا ذلك بهم.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} ثم قال عز وجل: {وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم على مكانتهم} يعني: إن شئت لمسختهم حجارة في منازلهم ليس فيها أرواح {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ} ولا يتقدمون، ولا يتأخرون. وهذا قول مقاتل. وقال الكلبي: لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً} يعني: فما قدروا ذهاباً، ولا يرجعون. قوله عز وجل: {وَمَن نّعَمّرْهُ} يعني: من أطلنا عمره في الدنيا {نُنَكّسْهُ فِى الخلق} يعني: نرده إلى أرذل العمر، فلا يعقل فيه كعقله الأول. قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر {نُنَكّسْهُ} بضم النون الأولى، ونصب الثانية، وكسر الكاف مع التشديد. وقرأ الباقون: {نُنَكّسْهُ} بنصب النون الأولى، وجزم الثانية، وضم الكاف، والتخفيف، ومعناهما واحد. يقال: نكسَه ونكسَّه وأنكسه بمعنى واحد. ومعناه: من أطلنا عمره، نكسنا خلقه. فصار بدل القوة ضعفاً. وبدل الشباب هرماً. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر مكاناتهم وقرأ الباقون {مكانتهم} والمكانة والمكان واحد. مثل المنزل والمنزلة والمكانات جمع المكانة. ثم قال: {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} يعني: أفلا تفهمون أن الله هو الذي يفعل ذلك، فتوحدوه، وليس لمعبودهم قدرة على ذلك. قرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} بالتاء، على معنى المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة: {وَأَنِ اعبدونى} بالياء. وقرأ الباقون: بغير ياء. لأن الكسر يدل عليه. ثم قال عز وجل: {وَمَا علمناه الشعر} جواباً لقولهم إنه شاعر يعني: أرسلنا إليه القرآن، ولم نرسل إليه الشعر {وَمَا يَنبَغِى لَهُ} يعني: لم يكن أهلاً لذلك. وقال: ما يسهل له، وما يحضره الشعر {وَمَا علمناه الشعر وَمَا يَنبَغِى لَهُ} يعني: ما هو إلا عظة {الرَ تِلْكَ} يعني: يبين الحق من الضلالة. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة أنه قال: سألت عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت كان أبغض الحديث إليه الشعر، ولم يتمثل بشيء من الشعر، إلا ببيت أخي بني قيس بن طرفة سَتُبْدِي لَكَ الأيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلا *** وَيَأْتِيكَ بِالأخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ، مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ بِالأَخْبَارِ». فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله. فقال: «لَسْتُ بِشَاعِرٍ وَلا يَنْبَغِي لِي أنْ أَتَكَلَّمَ بِالشِّعْر». فإن قيل: روي عنه أنه كان يتكلم بالشعر لأنه ذكر أنه قال أنَا النَّبِيُّ لا كَذِب *** أنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ وذكر أنه عثر يوماً فدميت أصبعه فقال هَلْ أنْتِ إلاَّ إصْبَعٌ دَمِيت *** وِفِي كِتَابِ الله مَا لَقِيت وذكر أنه قال يوم الخندق بِسْمِ الإله وَبِهِ هُدِينَار *** وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شقِينَا قيل له: هذه كلمات تكلم بها فصارت موافقة للشعر، وليست بشعر. ثم قال عز وجل: {لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} يعني: من كان مؤمناً، لأن المؤمن هو الذي يقبل الإنذار. ويقال: {مَن كَانَ حَيّاً} يعني: عاقلاً راغباً في الطاعة. قرأ نافع وابن عامر: {لّتُنذِرَ} بالتاء على معنى المخاطبة. يقول: لتنذر يا محمد. وقرأ الباقون: بالياء على معنى الخبر عنه. يعني: لتنذر يا محمد. ويقال: يعني: لتنذر بالقرآن من كان مهتدياً في علم الله تعالى الأزلي {وَيَحِقَّ القول} يعني: وجب العذاب {عَلَى الكافرين} يعني: قوله: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] ثم وعظهم ليعتبروا.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)} فقال عز وجل: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} يعني: أولم ينظروا فيعتبروا فيما أنعم الله عز وجل عليهم. قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما} يعني: أنا خلقنا لهم بقوتنا، وبقدرتنا، وبأمرنا، {أنعاما} يعني: الإبل، والبقر، والغنم، {فَهُمْ لَهَا مالكون} يعني: الأنعام. وقال قتادة: يعني: ما في بطونها {وذللناها لَهُمْ} يعني: سخرناها لهم، فيحملون عليها، ويسوقونها حيث شاؤوا، فلا تمتنع منهم {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} في انتفاعهم وحوائجهم {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} من الإبل، والبقر، والغنم، {وَلَهُمْ فِيهَا} يعني: في الأنعام {منافع} في الركوب، والحمل، والصوف، والوبر، {ومشارب} يعني: ألبانها {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} رب هذه النعمة، فيوحدونه. يعني: اشكروا، ووحدوا، {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً} يعني: تركوا عبادة رب هذه النعم، وعبدوا الآلهة {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} يعني: لعل هذه الآلهة تمنعهم من العذاب في ظنهم. يقول الله عز وجل: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} يعني: منعهم من العذاب {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} يعني: الكفار للأصنام جند يتعصبون لها، ويحضرونها في الدنيا للآلهة. ويقال: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} يعني: لآلهتهم كالعبيد، والخدم. قيام بين أيديهم. وقال الحسن: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ} في الدنيا {مُحْضَرُونَ} في النار. ثم قال عز وجل: {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} يعني: لا يحزنك يا محمد تكذيبهم إياك {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من التكذيب {وَمَا يُعْلِنُونَ} يعني: ما يظهرون لك من العداوة.
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} روى سفيان، عن الكلبي، عن مجاهد قال: أتى أبيّ بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالي، قد أتى عليه حين، فقام ففته بيده، ثم قال: يا محمد أتعدنا أنا إذا متنا وكنا مثل هذا بعثنا؟ فأنزل الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان} الآية. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم القرون الماضية أنهم يبعثون بعد الموت، وأنكم يا أهل مكة معهم، فأخذ أبيّ بن خلف الجمحي عظماً بالياً، فجعل يفته بيده، ويذروه في الرياح، ويقول: عجباً يا أهل مكة إن محمداً يزعم أنا إذا متنا، وكنا عظاماً بالية مثل هذا العظم، وكنا تراباً، أنا نعاد خلقاً جديداً، وفينا الروح، وذلك ما لا يكون أبداً، فنزل {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} يعني: أولم يعلم هذا الكافر أنا خلقناه أول مرة من نطفة {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} جدل بالباطل. ويقال {خَصِيمٌ} بيَّن الخصومة فيما يخاصم {مُّبِينٌ} أي: بيّن {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} يعني: وصف لنا شبهاً في أمر العظام. ويقال: وصف لنا بالعجز {وَنَسِىَ خَلْقَهُ} يعني: وترك ابتداءه حين خلقه من نطفة. ويقال: ترك النظر في خلق نفسه فلم يعتبر و{قَالَ مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} يعني: بالية. والرميم: العظم البالي. يقال: رمّ العظم إذا بلي. قال الله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني: قل يا محمد يحيي العظام الذي خلقها أول مرة يعني: في أول مرة ولم يكن شيئاً. ثم قال عز وجل: {وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يعني: {عَلِيمٌ} بخلقهم، وببعثهم. ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا في البعث فقال: {الذى جَعَلَ لَكُمُ} يعني: قل يا محمد العظام يحييها {الذى جَعَلَ لَكُمُ} {مّنَ الشجر الاخضر نَاراً فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ} قال الكلبي: كل شجرة يقدح منها النار إلا شجرة العناب، فمن ذلك القصارون يدقون عليه {فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ} يعني: تقدحون. يعني: فهو الذي يقدر على أن يبعثكم. ثم قال عز وجل: {أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والارض} وهي أعْظَمُ خلقاً {بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} في الآخرة. والكلام يخرج على لفظ الاستفهام. ويراد به التقرير. ثم قال: {بلى} هو قادر على ذلك {وَهُوَ الخلاق العليم} يعني: الباعث {العليم} ببعثهم. قوله عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} من أمر البعث وغيره {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} خلقاً. قرأ ابن عامر والكسائي: {فَيَكُونُ} بالنصب، وقد ذكرناه في سورة البقرة {فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ} يعني: خلق كل شيء من البعث وغيره. ويقال: خزائن كل شيء. ويقال: له القدرة على كل شيء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الموت، فيجازيكم بأعمالكم. قال: حدّثنا الفقيه أبو الليث رحمه الله. قال: حدّثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان، بإسناده عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْباً، وَقَلْبُ القُرْآنِ يس، فَمَنْ قَرَأ يس يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ الله تَعَالَى غُفِرَ لَهُ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كَمَنْ قَرَأ الْقُرْآن اثْنَتَيْ عَشَرَةَ مَرَّةً. وَأيُّمَا مُسْلِمٍ قُرِئَتْ عِنْدَهُ سُورَةُ يس حِينَ يَنْزِلُ بِهِ مَلِكُ الْمَوْتِ يَنْزِلُ إلَيْهِ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا عَشَرَةُ أمْلاكٍ يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفاً، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَيَشْهَدُونَ قَبْضَهُ، وَيَشْهَدُونَ غَسْلَهُ، وَيُشَيِّعُونَ جِنَازَتَهُ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُونَ دَفْنَهُ. وَأيُّمَا مُسْلِمٍ مَرِيضٍ قُرِئ عِنْدَهُ سُورَةُ يس وَهُوَ فِي سَكَرَاتِ المَوْتِ، لا يَقْبِض مَلَكَ المَوْتِ رُوَحَهُ حَتَّى يَجِيءَ رَضْوَانُ خَازِنُ الْجَنَّةِ بِشُرْبَةٍ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ فَيَشْرَبُهَا وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَقْبِضُ مَلَكُ الْمَوْتِ رُوحَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ رَيَّانُ، وَيَدْخَلُ قَبْرَهُ وَهُوَ رَيَّان، وَيَمْكُثُ فِي قَبْرِهِ وَهُوَ رَيَّان، وَيُخْرَجُ مِنَ الْقَبْرِ وَهُوَ رَيَّانُ، وَيُحَاسَبُ وَهُوَ رَيَّان، وَلا يَحْتَاجُ إلَى حَوْضٍ مِنْ حِيَّاضِ الأنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلامُ حَتَّى يُدْخُلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ رَيَّان» وَالله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأوَّاب وعلى آله وسلم.
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} قوله تبارك وتعالى: {والصافات صَفَّا} قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {والصافات صَفَّا} قال: أقسم الله تعالى بصفوف الملائكة الذين في السموات، كصفوف المؤمنين في الصلاة. ويقال: يعني: صفوف الغزاة في الحرب، كقوله عز وجل: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4] ويقال: بصفوف الأمم يوم القيامة لقوله عز وجل: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} [الكهف: 48] ويقال: صف الطيور بين السماء والأرض صافات بأجنحتها لقوله: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} [النور: 41] ويقال: صفوف الجماعات في المساجد. وفي الآية بيان فضل الصفوف، حيث أقسم الله بهن. ثم قال عز وجل: {فالزجرات زَجْراً} يعني: الملائكة الذين يزجرون السحاب، ويؤلفونه، ويسوقونه إلى البلد الذي لا مطر بها. ويقال: {فالزجرات} يعني: فالدافعات وهم الملائكة الذين يدفعون الشر عن بني آدم، موكلون بذلك. ويقال: {الزاجرات} يعني: ما زجر الله تعالى في القرآن بقوله: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] {وَءَاتُواْ اليتامى أموالهم وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] ويقال: هي التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وما كان من عند الله من كتب. ويقال: {صَفَّا فالزجرات زَجْراً} يعني: هم الأنبياء، والرسل، والعلماء، يزجرون الناس عن المعاصي، والمناهي، والمناكر {فالتاليات ذِكْراً} يعني: الملائكة وهو جبريل يتلو القرآن على الأنبياء. ويقال: هم المؤمنون الذين يقرؤون القرآن. ويقال: {فالتاليات ذِكْراً} قال: هم الصبيان يتلون في الكتاب من الغدوة إلى العشية. كان الله تعالى يحول العذاب عن الخلق، ما دامت تصعد هذه الأربعة إلى السماء. أولها أذان المؤذنين، والثاني تكبير المجاهدين، والثالث تلبية الملبين، والرابع صوت الصبيان في الكتاب. وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {والصافات صَفَّا} قال: الملائكة {فالزجرات زَجْراً} قال: الملائكة {فالتاليات ذِكْراً} قال: الملائكة وهكذا قال مجاهد: قد أقسم الله بهذه الأشياء {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} ويقال: أقسم بنفسه فكأنه يقول: وخالق هذه الأشياء {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} يعني: ربكم، وخالقكم، ورازقكم، لواحد. {رَب السموات} يعني: الذي خلق السموات {والارض وَمَا بَيْنَهُمَآ} من خلق {وَرَبُّ المشارق} يعني: مشرق كل يوم. وقال في آية أخرى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاولين} [الرحمن: 17] أي: مشرق الشتاء، ومشرق الصيف. وقال في هذه السورة {رَبّ المشارق} أي: مشرق كل يوم.
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)} ثم قال {إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا} يعني: الأدنى. وإنما سميت الدنيا لأنها أقرب إلى الأرض {بِزِينَةٍ الكواكب} أي: بضوء الكواكب. قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص {بِزِينَةٍ} بالتنوين {الكواكب} بالكسر بغير تنوين، بكسر الباء. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {بِزِينَةٍ} بالتنوين {الكواكب} بالنصب، والباقون {بِزِينَةٍ} بالكسر بغير تنوين {الكواكب} بكسر الباء. فمن قرأ {بِزِينَةٍ الكواكب} بالكسر جعل الكواكب بدلاً من الزينة. والمعنى: إنّا زينا السماء الدنيا بالكواكب. ومن قرأ بالنصب، أقام الزينة مقام التزيين. فكأنه قال: إنّا زينا السماء الدنيا بتزيننا الكواكب، فيكون الكواكب على معنى التفسير. ومن قرأ بغير تنوين، فهو على إضافة الزينة إلى الكواكب. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الكواكب معلقة بالسماء، كالقناديل. ويقال: إنها مركبة عليها، كما تكون في الصناديق والأبواب. ثم قال: {وَحِفْظاً مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ} يعني: حفظ الله تعالى السماء بالكواكب من كل شيطان متمرد. يعني: شديد يقال: مرد يمرد إذا اشتد. ثم قال: {لاَ يَسْمَعُونَ} قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص: {لاَ يَسْمَعُونَ} بنصب السين والتشديد. والباقون: {يَسْمَعُونَ} بنصب الياء، وجزم السين، مع التخفيف. فمن قرأ: بجزم السين فهو بمعنى يسمعون. ومن قرأ بالتشديد فأصله يتسمعون، فأدغمت التاء في السين، وشددت. يعني: لكيلا يستمعون {إلى الملإ الاعلى} يعني: إلى الكتبة {وَيَقْذِفُونَ} يعني: يرمون {مِن كُلّ جَانِبٍ دُحُوراً} يعني: طرداً من كل ناحية من السماء، وكانوا من قبل يستمعون إلى كلام الملائكة عليهم السلام قال: حدّثنا الخليل بن أحمد. قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم. قال: حدّثنا عبد الرزاق. قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن علي بن الحسن، عن ابن عباس. قال: بَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ في نَفَرٍ من أصحابه، إذ رمي بنجم فاستنار فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَا كُنْتُمْ تَقَولُونَ لِمِثْلِ هذا فِي الجَاهِلِيَّةِ» قالوا: يموت عظيم، أو يولد عظيم فقال عليه السلام: «إنَّهُ لا يُرْمَى لِمَوْتِ أحَدٍ، وَلا لِحيَاتِهِ ولكن الله عَزَّ وَجَلَّ إِذا قَضَى أمْراً يُسَبِّحُهُ حَمْلَةُ الْعَرْشِ، وَأَهْل السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. يَقُولُ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيَخْبِرُونَهُمْ فَيَسْتَخْبِرَ أهْلَ كُلِّ سَمَاءٍ أهْلَ السَّمَاءِ الأُخْرَى، حَتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَتَخطَفُ الجِنُّ، وَيَرْمُونَ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَهُوَ حَقٌّ. ولكنهم يَزِيدُونَ فِيهِ وَيَكْذِبُونَ» قال معمر: قلت للزهري: أو كان يرمى به في الجاهلية. قال: نعم. قال: قالت الجن لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الان يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} [الجن: 9] قال: غلظ وشدد أمرها، حيث بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: {دُحُوراً} يعني طرداً بالشهب فيعيدونهم {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} يعني: دائم. يعني: الشياطين لمن استمع، ولمن لم يستمع في الآخرة. وقال مقاتل: في الآية تقديم {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ} من الشياطين {الخطفة} يختطف يعني: يستمع إلى الملأ الأعلى من كلام الملائكة عليهم السلام {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} والشهاب في اللغة كل أبيض ذي نور، والثاقب المضيء، {فاستفتهم} يعني: سل أهل مكة. وهذا سؤال تقدير لا سؤال استفهام. وقال تعالى: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} بالبعث {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} يعني: ما خلقنا من السموات، وما ذكر من المشارق والمغارب. ويقال: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} بالبعث. يعني: بعثهم أشد {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} يعني: أم خلقهم في الابتداء. ثم ذكر خلقهم في الابتداء فقال: {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} يعني: خلقنا آدم وهم من نسله من طين حمئة. ويقال: {لاَّزِبٍ} أي: لاصق. ويقال: {لاَّزِبٍ} يعني: لازم. إِلاَّ أن الباء تبدل من الميم، لقرب مخرجهما، كما يقال سمد رأسه، وسبد إذا استأصله، واللازب واللاصق واحد. ثم قال: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} قرأ حمزة والكسائي: {عَجِبْتَ} بضم التاء. وقرأ الباقون: بالنصب. فمن قرأ بالنصب، فالمعنى بل عجبت يا محمد من نزول الوحي عليك، والكافرون يسخرون، مكذبين لك. ومن قرأ {بَلْ عَجِبْتَ} بالضم، فهو إخبار عن الله تعالى. وقد أنكر قوم هذه القراءة، وقالوا: إن الله تعالى لا يعجب من شيء، لأنه علم الأشياء قبل كونها، وإنما يتعجب من سمع أو رأى شيئاً لم يسمعه، ولم يره، ولكن الجواب أن يقال: العجب من الله عز وجل بخلاف العجب من الآدميين. ويكون على وجه التعجب، ويكون على وجه الإنكار والاستعظام لذلك القول. كما قال في آية أخرى {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاغلال فى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} [الرعد: 5] وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة أن شريحاً كان يقرأ {بَلْ عَجِبْتَ} بالنصب. ويقول: إنما يعجب من لا يعلم. وقال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال إبراهيم النخعي: إن شريحاً كان معجباً برأيه، وعبد الله بن مسعود كان أعلم منه، وكان يقرؤها {بَلْ عَجِبْتَ} بالضم. وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ هكذا بالضم، وهو اختيار أبي عبيدة. ثم قال: {وَيَسْخُرُونَ} يعني: يسخرون حين سمعوا {وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ} يعني: إذا وعظوا بالقرآن، لا يتعظون {وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً} يعني: علامة مثل انشقاق القمر {يَسْتَسْخِرُونَ} يعني: يستهزئون، ويسخرون. وقال أهل اللغة سخر واستسخر بمعنى واحد، مثل قرأ واستقرأ {وَقَالُواْ إِن هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} يعني: يبين قوله عز وجل: {أَءذَا مِتْنَا} يعني: يقولون إذا متنا {وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} يعني: لمحيون بعد الموت {أَوَ ءابَاؤُنَا الاولون قُلْ} يا محمد {نَعَمْ وَأَنتُمْ داخرون} يعني: صاغرون.
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} ثم قال عز وجل: {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة} يعني: صيحة ونفخة واحدة، ولا يحتاج إلى الأخرى {فَإِذَا هُم} يعني: الخلائق {يُنظَرُونَ} يعني: يخرجون من قبورهم، وينظرون إلى السماء كيف غيرت؟ والأرض كيف بدلت؟ فلما عاينوا البعث، ذكروا قول الرسل: إن البعث حق. {وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين} يعني: يوم الحساب. ويقال: يوم الجزاء. فردت عليهم الحفظة. ويقولون: {هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} أنه لا يكون. ثم ينادي المنادي: {احشروا الذين ظَلَمُواْ} يعني: سوقوا الذين كفروا {وأزواجهم} يعني: وأشباههم. ويقال: وقرناءهم، وضرباءهم. ويقال: وأشياعهم، وأعوانهم. ويقال: وأمثالهم {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يعني: من الشياطين الذين أضلوهم. ويقال: كل معبود، وكل من يطاع في المعصية {فاهدوهم} يعني: ادعوهم جميعاً. ويقال: اذهبوا بهم، وسوقوهم جميعاً {إلى صراط الجحيم} يعني: إلى طريق الجحيم، والجحيم ما عظم من النار. ويقال: إلى وسط الجحيم. فلما انطلق بهم إلى جهنم أرسل الله عز وجل ملكاً يقول: {وَقِفُوهُمْ} أي: احبسوهم {أَنَّهُمْ} عن ترك قول لا إله إلاَّ الله. ويقال: في الآية تقديم. يعني: يقال لهم قفوا قبل ذلك. فحبسوا، أو سئلوا. ثم يساق بهم إلى الجحيم فيقال لهم: {مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تناصرون} يعني: لم ينصر بعضكم بعضاً، ولا يدفع بعضكم عن بعض كما كنتم تفعلون في الدنيا. قوله عز وجل: {بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} أي: خاضعون ذليلون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} يعني: يسأل ويخاصم بعضهم بعضاً القادة والسفلة، والعابد، والمعبود، ومتابعي الشيطان للشيطان. ويقال: {يَتَسَاءلُونَ} يعني: يتلاومون {قَالُواْ} يعني: السفلة للرؤساء {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} يعني: من قبل الحق أي: الدين فزينتم لنا ضلالتنا. وروي عن الفراء أنه قال: {اليمين} في اللغة القوة والقدرة. ومعناه {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} بأقوى الحيل، وكنتم تزينون علينا أعمالنا. وقال الضحاك: تقول السفلة للقادة: إنكم قادرون وظاهرون علينا. ونحن ضعفاء أذلاء في أيديكم. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: {تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} عن الحق. يعني: الكفار يقولون: للشيطان. وقال القتبي: إنما يقول هذا: المشركون لقرنائهم من الشياطين {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} يعني: عن أيماننا لأن إبليس قال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} [الأعراف: 17] وقال المفسرون: من أتاه الشيطان من قبل اليمين، أتاه من قبل الدين، وليس عليه الحق. ومن أتاه من قبل الشمال، أتاه من قبل الشهوات، ومن أتاه من بين يديه، أتاه من قبل التكذيب بالقيامة، ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه، وعلى من يخلف بعده، فلم يصل رحماً، ولم يؤد زكاة. وقال المشركون لقرنائهم: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} في الدنيا من جهة الدين يعني: أضللتمونا {قَالُواْ} لهم قرناؤهم {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: لم تكونوا على حق، فتشبه عليكم، ونزيلكم عنه إلى الباطل {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان} يعني: من قدرة فنقهركم. ويقال: من ملك فنجبركم عليه {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين} يعني: كافرين عاصين {فَحَقَّ عَلَيْنَا} يعني: وجب علينا جميعاً {قَوْلُ رَبّنَا} وهو السخط. ويقال: {قَوْلُ رَبّنَا} يوم قال لإبليس {لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] {إِنَّا لَذَائِقُونَ} يعني: العذاب جميعاً في النار. قوله عز وجل: {فأغويناكم} يعني: أضللناكم عن الهدى {إِنَّا كُنَّا غاوين} يعني: ضالين. يقول الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ} يعني: الكفار والشياطين {يَوْمَئِذٍ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ} يعني: شركاء في النار، وفي العذاب يوم القيامة {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} يعني: هكذا نفعل بمن أشرك، فنجمع بينهم وبين الذين أضلّوهم في النار. ثم أخبر عنهم فقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ} يعني: في الدنيا {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله} يعني: قولوا لا إله إلا الله {يَسْتَكْبِرُونَ} عنها، ولا يقولونها {وَيَقُولُون اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا} يعني: أنترك عبادة آلهتنا {لِشَاعِرٍ} يعني: لقول شاعر {مَّجْنُونٍ} أي: مغلوب على عقله. يقول الله تعالى: {بَلْ جَاء بالحق} يعني: بالقرآن. ويقال: بأمر التوحيد. ويقال: جاء ببيان الحق {وَصَدَّقَ المرسلين} الذين قبله. قال مقاتل: يعني: صدق محمد صلى الله عليه وسلم بالمرسلين الذين قبله. وقال الكلبي: وبتصديق المرسلين الذين قبله. ومعناهما واحد. ويقال: معناه جاء محمد عليه السلام بموافقة المرسلين عليهم السلام {إِنَّكُمْ} يعني: العابد والمعبود {يَرَوُاْ العذاب الاليم} يعني: لتصيبوا العذاب الوجيع الدائم {وَمَا تُجْزَوْنَ} في الآخرة {إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني: إلا بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي والشرك. ثم استثنى المؤمنين فقال عز وجل: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} يعني: الموحدين ويقال: {إِلا} بمعنى لكن {عِبَادَ الله المخلصين}.
{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)} ثم قال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} يعني: طعام معلوم معروف حين يشتهونه على قدر غدوة وعشية. ثم بيّن الرزق فقال: {فواكه} يعني: ألوان الفاكهة {وَهُم مُّكْرَمُونَ} بالثواب. ويقال: منعمون {فِي جنات النعيم على سُرُرٍ متقابلين} في الزيارة {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} يعني: يطوف عليهم خدمهم {بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ} خمراً جارياً من معين. يعني: الطاهر الجاري {بَيْضَاء}. يعني: بخمرة توجب اللذة {بَيْضَاء لَذَّةٍ} يعني: شهوة {لِلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ} يعني: ليس فيها إثم. ويقال: لا غائلة لها، ولا يوجع منها الرأس. وروى شريك عن سالم قال: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي: لا مكروه فيها، ولا أذى. وقال القتبي: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي: لا تغتال عقولهم، فتذهب بها. يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس، والغول البعد {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} قرأ حمزة والكسائي {يُنزَفُونَ} بكسر الزاي. وقرأ الباقون: بالنصب فمن قرأ بالنصب فمعناه: لا يذهب عقولهم شربها. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف إذا زال عقله. ومن قرأ بالكسر، فله معنيان: أحدهما لا ينفد شرابهم أبداً، والثاني أنهم لا يسكرون. ثم قال عز وجل: {وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف عِينٌ} يعني: غاضات الأعين عن غير أزواجهن. يعني: قصرن طرفهن على أزواجهن، وقنعن بهم، ولا يبغين بهم بدلاً. ثم قال: {عِينٌ} أي: حسان الأعين شدة البياض في شدة السواد. يقال لواحدة العين: عيناء. يعني: كبيرة العين. ويقال: الحسن العيناء التي سواد عينها أكثر من بياضها. ثم قال: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يعني: إنهن أحسن بياضاً من بيض النعم، والعرب تشبه النساء ببيض النعام. يقال: لا يكون لون البياض في شيء أحسن من بيض النعام. وقال قتادة: البيض التي لم تلوثه الأيدي. ويقال: البيض أراد به القشر الداخل من البيض المكنون قد خبأ، وكنَّ من البرد والحر {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} يعني: يسأل بعضهم بعضاً عن حاله في الدنيا. قوله عز وجل: {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} يعني: من أهل الجنة {إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ} وهو الذي بيّن الله تعالى أمرهما في سورة الكهف {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32] فكانا أخوين وشريكين، وأنفق أحدهما ماله في أمر الآخرة، واتخذ الآخر لنفسه ضياعاً، وخدماً، واحتاج المؤمن إلى شيء، فجاء إلى أخيه الكافر يسأله، فقال له الكافر ما صنعت بمالك، فأخبره أن قدمه إلى الآخرة، فقال له الكافر: {يِقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين} يعني: إنك ممن يصدق بالبعث. وطلب منه أن يدخل في دينه، ولم يقض حاجته، فذلك قوله: {أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين} يعني: بالبعث بعد الموت. قوله عز وجل: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ} يعني: لمحاسبون. فيقول المؤمن لأصحابه في الجنة: {قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} حتى ننظر إلى حاله، وإلى منزله، فيقول أصحابه: اطلع أنت، فإنك أعرف به منا {فَأَطَّلِعَ} يعني: فنظر في النار {فاطلع فَرَءاهُ فِى سَوَاء} يعني: رأى أخاه في وسط الجحيم، أسود الوجه، مزرق العين، فيقول المؤمن عند ذلك قوله: {قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} يعني: والله لقد هممت لتغويني، ولتضلني. ويقال: {لَتُرْدِينِ} أي: لتهلكني يقال: أرديت فلان أي: أهلكته. والردى: الموت والهلاك. وقال القتبي في قوله: {أَنَاْ * لَمَدِينُونَ} أي: مجازون بأعمالنا. يقال: دنته بما عمل أي جازيته.
{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} ثم قال عز وجل: {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى} يعني: لولا ما أنعم الله عليَّ بالإسلام {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} معك في النار ثم أقبل المؤمن على أصحابه في الجنة فقال: يا أهل الجنة {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاولى} اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به النفي. يعني: لا نموت أبداً سوى موتتنا الأولى. وذلك حين يذبح الموت، فيأمنوا من الموت {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} يعني: لم نكن من المعذبين مثل أهل النار. قال الله عز وجل: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} يعني: النجاة الوافرة، فازوا بالجنة، ونجوا من النار {لِمِثْلِ هذا} يعني: لمثل هذا الثواب، والنعم، والخلود، {فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي فليبادر المبادرون. ويقال: فليجتهد المجتهدون. ويقال: فليحتمل المحتملون الأذى، لأنه فد حفّت الجنة بالمكاره {أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً} يعني: الذي وصفت في الجنة خير ثواباً. ويقال رزقاً. ويقال: منزلاً {أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} للكافرين {إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين} يعني: ذكر الشجرة بلاء للمشركين. قال قتادة: زادتهم تكذيباً، فقالوا: يخبركم محمد أن في النار شجرة، والنار تحرق الشجر. وقال مجاهد: {إِنَّا جعلناها فِتْنَةً} قول أبي جهل: إنما الزقوم التمر، والزبد. فقال لجاريته: زقمينا فزقمته. وذكر أن ابن الزبعري قال: الزقوم بلسان البربر، وإفريقيا التمر والزبد. فأخبر الله تعالى عن الزقوم أنه لا يشبه النخل، ولا طلعها كطلع النخل، فقال: {أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً} يعني: نعيم الجنة، وما فيها من اللذات {خَيْرٌ نُّزُلاً} أي: طعاماً {أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} لأهل النار. قوله عز وجل: {إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين} ثم وصف الشجرة فقال: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم} يعني: في وسط الجحيم {طَلْعِهَا} يعني: ثمرتها {كَأَنَّهُ رؤوس الشياطين} يعني: رؤوس الحيات، قبيح في النظر. ويقال: هو نبت لا يكون شيء من النبات أقبح منه، وهو يشبه الحسك، فيبقى في الحلق. ويقال: هي رؤوس الشياطين بعينها، وذلك أن العرب إذا وصفت الشيء بالقبح، تقول: كأنه شيطان. ثم وصف أكلهم فقال: {فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا} يعني: من ثمرها {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} وهو جماعة المالئ. يعني: يملؤون منها البطون. قال: حدّثنا أبو الليث رحمه الله قال: حدّثنا الفقيه أبو جعفر. قال: حدّثنا محمد بن عقيل. قال: حدّثنا عباس الدوري. قال: حدّثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا الله وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. فَلَوْ أنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قَطَرَتْ فِي الأرْضِ، لأَمَرَّتْ عَلَى أهْلِ الدُّنْيَا مَعِيشَتَهُمْ، فَكيْفَ بِمَنْ هُوَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ مِنْهُ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ غَيْرُهُ». قوله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} يعني: خلطاً من حميم من ماء حار في جهنم {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم} يعني: مصيرهم إلى النار. ثم بيّن المعنى الذي به يستوجبون العقوبة فقال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ} يعني: وجدوا {ضَالّينَ فَهُمْ} عن الهدى {فَهُمْ على ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} يعني: يسعون في مثل أعمال آبائهم، والإهراع في اللغة المشي بين المشيتين. وقال مجاهد: كهيئة الهرولة.
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} ثم قال عز وجل: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} يعني: أضلّ إبليس قبلهم {أَكْثَرُ الاولين} يعني: من الأمم الخالية. ولم يذكر إبليس لأن في الكلام دليلاً عليه، فاكتفى بالإشارة. ومثل هذا كثير في القرآن. ثم قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} يعني: رسلاً ينذرونهم كما أرسلناك إلى قومك، فكذبوهم بالعذاب كما كذبك قومك، فعذبهم الله تعالى في الدنيا {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} يعني: آخر أمر من أنذر فلم يؤمن {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} يعني: الموحدين، المطيعين، فإنهم لم يعذبوا. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} يعني: دعا نوح ربه على قومه، وهو قوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فانتصر} [القمر: 10] {فَلَنِعْمَ المجيبون} يعني: نعم المجيب أنا {ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} يعني: من الهول الشديد، وهو الغرق. قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} لأن الذي حمل معه من الناس ثمانون رجلاً وامرأة غرقوا كلهم، ولم يبق إلا ولده سام وحام ويافث قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: حدّثنا أبو جعفر. قال: حدّثنا أبو القاسم الصفار بإسناده عن سمرة بن جندب. قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَام أبُو العَرَبِ، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم». ثم قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين} يعني: أبقينا عليه ذكراً حسناً في الباقين من الأمم، وهذا قول القتبي: وقال مقاتل: يعني: أثنينا على نوح بعد موته ثناء حسناً. ثم قال عز وجل: {سلام على نُوحٍ فِى العالمين} يعني: السعادة والبركة على نوح من بين العالمين {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} يعني: هكذا نجزي كل من أحسن {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} يعني: المصدقين بالتوحيد {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخرين} يعني: قومه الكافرين. قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم} قال مقاتل: يعني: إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام وعلى ملته. وقال الكلبي يعني: من شيعة محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم، وعلى دينه، ومنهاجه. وذكر عن الفراء أنه قال: هذا جائز. وإن كان إبراهيم قبله كما قال: {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الفلك المشحون} [يس: 41]. يعني: آباءهم ذريته الذين هو منهم. قوله عز وجل: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} يعني: إبراهيم دعا ربه بقلب سليم. أي: خالص ويقال: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي: مخلص سليم من الشرك {إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} يعني: إيش الذي تعبدون. ويقال: معناه لماذا تعبدون هذه الأوثان؟. قوله عز وجل: {الله ءالِهَةً} يعني: أكذباً آلهة {دُونَ الله تُرِيدُونَ} عبادتها {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ العالمين} إذا عبدتم غيره، فما ظنّكُم به إذ لقيتموه؟ {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم} قال مقاتل: يعني: في الكواكب. ويقال: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم} أي: في أمر النجوم. ثم تفكر بالعين وبالقلب وذلك أنه رأى كوكباً قد طلع {فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} أي: سأسقم. ويقال: مطعوناً. وهو قول سعيد بن جبير، والضحاك. وقال القتبي: نظر في الحساب لأنه لو نظر إلى الكواكب لقال: نظر نظرة إلى النجوم. وإنما يقال: نظر فيه إذا نظر في الحساب. {فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} أي: سأمرض غداً، وكانوا يتطيرون من المريض. فلما سمعوا ذلك منه هربوا، فذلك قوله تعالى: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدّثنا الخليل بن أحمد. قال: حدّثنا خزيمة. قال: حدّثنا عيسى بن إبراهيم. قال: حدّثنا ابن وهب عن جرير بن حازم، عن أيوب السجستاني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمَ قَطُّ إلاَّ ثَلاثَ كَذِباتٍ، ثِنْتَانِ فِي ذَاتِ الله قوله: {إِنّى سَقِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِى المدآئن حاشرين} [الأنبياء: 63] وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَّةَ، ذلك أنَّهُ قَدِمَ أرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَّةُ، وَكَانَتْ أحْسَنَ النِّسَاءِ فَقَالَ لَهَا: إنَّ هذا الجَبَّارَ إنْ عَلِمَ أنَّكِ امْرَأَةٌ، يَغْلِبنِي عَلَيْكِ. فَإنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أنَّكِ أُخْتِي فِي الإسْلامِ، فإنِّي لا أعْلَمُ فِي الأرْضِ مُسْلِماً غَيْرِي وَغَيْرَكِ. فَلّمَا دَخَلَ الأرْضَ، رَآهَا بَعْضُ أهْلِ الجَبَّارِ، فأتَاهُ. فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ دَخَلَ الْيَوْمَ أرْضَكَ امْرَأَةٌ لا يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ إلاَّ لَكَ؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهَا. فَأُتِي بِهَا. فَقَامَ إبْرَاهِيمُ إلَى الصَّلاةِ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أنْ بَسَطَ يَدَهُ إلَيْهَا، فَقُبِضَتْ يَدَهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً. فَقَالَ لَهَا ادْعِي الله أنْ يُطْلِقَ يَدِي، وَلا أضُرُّكِ. فَفَعَلَتْ. فَعَادَ، فَقُبِضَتْ يَدُهُ أشَدَّ مِنَ القَبْضَةِ الأُولَى. فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَتْ. فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أشَدَّ مِنَ القَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي الله أنْ يُطْلِقَ يَدِي، وَلَكِ عَلَيَّ ألاَّ أضُرُّكِ، فَفَعَلَتْ، فَأُطْلِقَتْ يَدُهُ. فَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إنَّكَ أتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، وَلَمْ تَأْتِنِي بإنْسَانٍ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أرْضِي، وَأعْطَاهَا هَاجَرَ، فَأقْبَلَتْ تَمْشِي حَتَّى جَاءَتْ إلَى إبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا رَآهَا إبْرَاهِيمُ انْصَرَفَ مِنَ الصَّلاةِ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ يَعْنِي مَا الخَبَرُ؟ فَقَالَتْ: خَيْراً كُفِيتُ الفَاجِرَ، وأخْدَمَنِي خَادِماً». فقال أبو هريرة: فتلك أمُّكم يا بني ماء السماء. يعني: نسل العرب منها. لأنه روي في الخبر أنها وهبت هاجر لإبراهيم، فولد منها إسماعيل. ويقال: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} يعني: أعرضوا عنه ذاهبين إلى عيدهم. قوله عز وجل: {فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ} يعني: مال إلى أصنامهم. ويقال: دخل بيوت الأصنام، فرأى بين أيديهم طعاماً {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} فلم يجيبوه، فقال: {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُون فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين} يعني: أقبل يضربهم بيمينه. ويقال: يضربهم باليمين التي حلف، وهو قوله: {قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} [الأنبياء: 57] ويقال: {باليمين}. يعني: يضربهم بالقوة. واليمين كناية عنها، لأن القوة في اليمين {فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} يعني: يسرعون {قَالَ} إبراهيم {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} بأيديكم من الأصنام. قرأ حمزة: يُزِفون بضم الياء. وقرأ الباقون: بالنصب. فمن قرأ بالنصب فأصله من زفيف النعام، وهو ابتداء عدوه. ومن قرأ بالضم أي: يصيروا إلى الزفيف، ويدخلون في الزفيف، وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد، وهو الإسراع في المشي. ثم قال عز وجل: {والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يعني: وما تنحتون به يأيديكم من الأصنام. ومعناه: تتركون عبادة من خلقكم، وخلق ما تعملون، وتعبدون غيره {قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا} يعني: أتوناً {فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم} يعني: في النار العظيمة {فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} يعني: أرادوا حرقه وقتله {فجعلناهم الاسفلين} يعني: الآخرين. ويقال: الأذلين. وعلاهم إبراهيم فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى أهلكهم الله عز وجل.
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} {وَقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي} يعني: إني مهاجر إلى طاعة ربي. ويقال: من أرض ربي. إلى أرض ربي. وقال مقاتل: يعني: من بابل إلى بيت المقدس. ويقال: من أرض حران إلى بيت المقدس، ويقال: من أرض حران إلى بيت المقدس، {سَيَهْدِينِ} يعني: يحفظني ويقال: إني مهاجر إلى ربي يعني: مقبل إلى طاعة ربي {سَيَهْدِينِ} أي سيرشدني ربي. ويقال: سيعينني. قوله عز وجل: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} يعني: يا رب أعطني ولداً صالحاً من المسلمين {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} يعني: حليم في صغره، عليم في كبره. قوله عز وجل: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} إلى الحج، ويقال: إلى الجبل {قَالَ} إبراهيم عليه السلام لابنه {قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام} قال مقاتل: هو إسحاق. وقال الكلبي: هو إسماعيل. وروى معمر عن الزهري قال في قوله: {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} قال ابن عباس: هو إسماعيل. وكان ذلك بمنًى. وقال كعب: هو إسحاق. وكان ذلك ببيت المقدس. وقال مجاهد، وابن عمر، ومحمد بن كعب القرظي؛ هو إسماعيل. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو إسحاق. وهكذا روي عن ابن عباس، وهكذا قال وعكرمة، وقتادة، وأبو هريرة، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم وهكذا قال أهل الكتابين كلهم، والذي قال: هو إسماعيل احتج بالكتاب والخبر، أما الكتاب فهو أنه لما ذكر قصة الذبح قال على أثر ذلك: {وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً} وأما الخبر فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «أنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْن» يعني: أباه عبد الله بن عبد المطلب، وإسماعيل بن إبراهيم. وأما الذي يقول: هو إسحاق يحتج بما روي في الخبر، أنه ذكر نسبة يوسف، فقال: كان يوسف أشرف نسباً. يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله قد اختلفوا فيه هذا الاختلاف، والله أعلم بالصواب، والظاهر عند العامة هو إسحاق. فذلك قوله: {قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} فظاهر اللفظ أنه رأى في المنام أنه يذبحه، ولكن معناه: {إِنّى أرى فِى المنام} أني قد أمرت بذبحك بدليل ما قال في سياق الآية: {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} وروي في الخبر: «أنَّهُ رَأَى فِي المَنَامِ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَذْبَحَ وَلَدَكَ فَاسْتَيْقَظَ خَائِفاً، وَقَالَ: أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. ثُمَّ رَأَى فِي المَنَامِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مِثْلَ ذلك، فَاسْتَيْقَظَ وَضَمَّ ابْنَهُ إلى نَفْسِهِ، وَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ، فَانقادَ لأمْرِ الله تَعَالَى، وَقَالَ لامْرَأتِهِ سَارَّة إنِّي أرِيدُ أنْ أَخْرُجَ إلى طَاعَةِ رَبِّي، فَابْعَثِي ابْنِي مَعِي، فَجَهَّزَتْهُ، وَبَعَثَتْهُ مَعَهُ» قال كعب الأحبار: قال الشيطان: إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً. فلما خرج إبراهيم بابنه ليذبحه، فذهب الشيطان، ودخل على سارة. فقال: أين ذهب إبراهيم بابنك؟ فقالت: غدا به لبعض حاجته. قال: إنه لم يغد به لحاجته، ولكنه إنما ذهب به ليذبحه، فقالت: ولم يذبحه؟ قال: يزعم أن ربه أمره بذلك. فقالت: قد أحسن أن يطيع ربه، فخرج في أثرهما، فقال للغلام: أين يذهب بك أبوك؟ قال لبعض حاجته. قال: فإنه لا يذهب بك لحاجته، ولكنه إنما يذهب بك ليذبحك. فقال: ولم يذبحني؟ قال: يزعم أن ربه أمره بذلك. قال: فوالله لئن كان الله أمره بذلك، ليفعلن. فتركه ولحق بإبراهيم، فقال: أين غدوت بابنك؟ قال: لحاجة. قال: فإنك لم تغد به لحاجة، وإنما غدوت به لتذبحه. قال ولم أذبحه؟ قال: تزعم أن الله تعالى أمرك بذلك. قال: فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن. فتركه، وأيس من أن يطاع. قوله عز وجل: {فانظر مَاذَا ترى قَالَ ياأبت قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين * وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فأوحى الله تعالى إلى إسحاق أن ادعو، فإن لك دعوة مستجابة. فقال إسحاق: اللَّهم إني أدعوك أن تستجيب لي في أيما عبد من الأولين والآخرين لقيك لا يشرك بك شيئاً أن تدخله الجنة. وقال مجاهد: إن إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يذبح ابنه بالسكين، قال ابنه: يا أبت خذ بناصيتي، واجلس بين كتفي، حتى لا أوذيك إذا أصابني حدّ السكين، ولا تذبحني وأنت تنظر في وجهي، عسى أن ترحمني، واجعل وجهي إلى الأرض، ففعل إبراهيم. فلما أمرّ السكينة على حلقه، انقلبت. فقال: يا أبت ما لك؟ قال: قد انقلبت السكين. قال: فاطعن بها طعناً. قال: فطعن، فانثنت. قال: فعرف الله عز وجل الصدق منه، ففداه بذبح عظيم، وقال: هو إسحاق. وروى أسباط عن السدي قال: كان من شأن إسحاق حين أراد أبوه أن يذبحه. أنه ركب مع أبيه في حاجة، فأعجبه شبابه، وحسن هيئته، وكان إبراهيم حين بشر بإسحاق قبل أن يولد له، قال: هو إذاً لله ذبيح. فقيل لإبراهيم في منامه: قد نذرت لله نذراً فاوفيه، فلما أصبح قال: {قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} يقول: قد أمرت بذبحك {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} قال: فانطلق معي، وأخبر أمك أنك تنطلق إلى أخوالك، وأخذ إبراهيم معه حبلاً، ومدية، يعني: السكين. فقال له: يا أبتاه حدها فإنه أهون للموت. فانطلق به، حتى أتى به جبلاً من جبال الشام. فأضجعه في أصرة، وربط يديه ورجليه، فقال له إسحاق: يا أبتاه شدّ رباطي، لكي لا أضطرب، فيصيب الدم ثيابك، فتراه سارة، فتحزن، فبكى إبراهيم بكاء شديداً. وأخذ الشفرة، فوضعها على حلقه، وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة نحاس، فجعل يحز، فلا تصنع شيئاً. فلما رأى إبراهيم ذلك، قلّبه على وجهه، فضرب الله تعالى على قفاه صفيحة نحاس، وبكيا حتى ابتلت الأرض من دموعهما. فجعل يحز، فلا تقطع شيئاً فنودي: {أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} ودونك هذا الكبش فهو فداه. فالتفت فإذا هو بكبش أبيض، أملح، ينحط من الجبل، وقد كان رعي في الجنة أربعين خريفاً، فخلّى عن ابنه، وأخذ الكبش فذبحه. وقال وهب بن منبه: لما قال لإسحاق: {السعى قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} ثم قال: يا أبت إني أوصيك بثلاثة أشياء. قال: وكان إسحاق في ذلك اليوم ابن سبع سنين. أحدهما: أن تربط يدي لكيلا أضطرب فأؤذيك، والثاني أن تجعل وجهي إلى الأرض لكيلا تنظر إلى وجهي فترحمني، والثالث أن تذهب بقميصي إلى أمي ليكون القميص عندها تذكرة مني. فذلك قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى قَالَ يابنى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} قرأ حمزة والكسائي {مَاذَا ترى} بضم التاء. يعني: ماذا ترى من صبرك. ويقال: معناه ماذا تشير. وقرأ الباقون: بالنصب، وهو من الرأي. يعني: ماذا ترى من صبرك. ويقال: معناه ماذا تشير فيما أمر الله به. ويقال: هو من المشورة والرأي قال أبو عبيد: بالنصب تقرأ لأن هذا في موضع المشورة والرأي، والآخر يستعمل في رؤية العين {قَالَ يَاءادَمُ * ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} على الذبح. قوله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} يعني: اتفقا على أمر الله تعالى. قال قتادة: أسلم هذا نفسه لله تعالى. وأسلم هذا ابنه لله تعالى. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ: {فَلَمَّا أسلاما وتله للجبين} يعني: رضيا {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} يعني: صرعه على جبينه. أي: على وجهه. وقال القتبي {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} يعني: جعل إحدى جبينيه على الأرض، وهما جبينان، والجبهة بينهما {وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} وقال القتبي: الواو زيادة. ومعناه: فلما أسلما وتله للجبين ناديناه وهذا كما قال امرئ القيس فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَة الحَيِّ وانْتَحَى *** بِنَا بَطْنُ خَبْت ذي حِقافٍ عَقَنْقَلِ يعني: انتحى، والواو زيادة. وقال بعضهم: في الآية مضمر. ومعناه {فَلَمَّا أَسْلَمَا} سلما {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} وذكر عن الخليل بن أحمد أنه سئل عن هذه الآية: فقال: ليس لنا في كتاب الله عز وجل متكلم. فقيل له: فما مثله في العربية. فقال: قول امرئ القيس: فلما أجزنا، ساحة الحي أجزنا وانتحى بنا. كذلك قوله: {أَسْلَمَا} سلما {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}. {وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} يعني: أوفيت الوعد، وائتمرت ما أمرت لقول الله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} كما فعلت يا إبراهيم. قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} يعني: الاختبار البيّن. ثم قال: {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} يعني: بكبش عظيم. والذبح بكسر الذال اسم لما يذبح، وبالنصب مصدر. وروي عن ابن عباس أنه قال: حدثني من رأى قرني الكبش، معلقين في الكعبة، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عن إسماعيل عليهما السلام. ثم قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين} قال: الثناء الحسن {سلام على إبراهيم} يعني: سلام الله على إبراهيم. ويقال: هذا موصول بالأول. يعني: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين * سلام على إبراهيم} يعني: أثنينا عليه السلام في الآخرين. قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} يعني: المصدقين، المخلصين. ثم قال عز وجل: {وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين} يعني: بشرناه بنبوة إسحاق بعدما أمر بذبح إسحاق. وقال ابن عباس: بشر بإسحاق بعدما أمر بذبح إسماعيل. وكان إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. ثم قال عز وجل: {وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق} أي: على إبراهيم وعلى إسحاق، وبركته النماء، والزيادة في الأموال، والأولاد، فكان من صلبه ذرية لا تحصى {وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} مثل موسى، وهارون، وداود، وسليمان، وعيسى عليهم السلام ومؤمنو أهل الكتاب {وظالم لّنَفْسِهِ مُبِينٌ} يعني: الذين كفروا بآيات الله عز وجل. وروي عن ابن عباس أنه قال: قد رعي الكبش في الجنة أربعين خريفاً. وقال بعضهم: هي الشاة التي تقرب بها هابيل ابن آدم عليهما السلام فتقبل منه قربانه، ورفع إلى السماء حياً، ثم جعل بدلاً عن ذبح إسماعيل أو إسحاق. ويقال: هي الشاة التي خلقها الله تعالى لأجله. وقال بعضهم: إنها وعلة من البر، يعني: بقرة وحش من البر جبلية.
|